القائمة الرئيسية

الصفحات

عبدالملك : الوجع المنسي والألم المتجدد

 


تعز – مجاهد حمود

مالذي فعلته لأدفع هذه الضريبة في حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل ؟

بقصد الرزق ، وظف كل قواه ، مترنماً بأغنية الصباح تاركاً ورائه كل هموم العائلة .

وبهمة عالية ، استقل عبدالملك حافلته التي لا يملكها ، يمتر شوارع المدينة الضيقة ذهاباً وعودة بحثاً عن ركاب ومال لتغطية إيجار الحافلة اليومي ومصاريف أطفاله الأربعة وما تبقى لإيجار المنزل .

يستيقظ باكراً فجر كل يوم ومع تصاعد أصوات الأذان بالمغرب يكون قد قفل عائداً منزله ، فلم يعد هنالك من مارة في مدينة صارت بعد الحرب تغلق أبوابها بحلول الظلام .

كما العادة كل يوم ، يعود عبد الملك وفي جيبه بقايا من ريالات معدنية يتسابق عليها أطفاله بمجرد سماعهم حركة قدميه ، أو أوراق نقدية تالفة من فئة الخمسين ريال تتخصص زوجته بإعادة تأهيلها وضمها لبعضها تحسباً لنهاية الشهر .

في المرة الأخيرة ، كان يقود حافلته المحملة ببعض الركاب في شارع المرور-شارع يربط حي الحصب بحي صينة وسط مدينة تعز- وقعت الكارثة التي أفاق منها بعد 24 ساعة من الغيبوبة واودعته المستشفى لشهر ونصف خرج منها فاقداً رجله اليسرى وعينه اليمنى التي انطفأت جراء الشظايا .

هناك وسط الشارع بالقرب من بوابة مبنى الشرطة العسكرية المؤقت ، حيث الراكب طلب النزول ، ركن عبد الملك حافلته ذات ال 12 راكب وتوقف ، لتبدأ رحلته مع مأساة سيحكي فصولها لنا لاحقاً .

شيئ ما لا شك أنه سيحدث هنا ، فالناس وجوههم الريبة تكاد تنطق . هكذا حدث عبد الملك نفسه في مونولوج داخلي اتضح له لاحقاً أنه سيضمه لكشف المقعدين .

على بوابة منزلة  في حي صينة وسط المدينة استقبلنا عبد الملك برفقة أطفاله الأربعه آخرهم  ( ملاك  ) ذات الربيعين من العمر .

استقبلني وبيده عكاز ، وٱثار التعب تغطي ملامحه ليقودنا نحو حجرة صغيرة بالكاد لا تتسع لغيرنا ، أنا وهو وكيمرتي بجانب أطفاله الاثنين أو ملاك  التي كانت منسجمة مع رجل والدها في الزاوية القريبة من الحجرة .

ملاك  الطفلة البريئة المسكونة بسؤال لا يمكنها التفوه به :  ” لماذا هي رجل أبي مرمية هنا ”  . هي لا تدرك أو لا تتصور أن بعض الأرجل يمكن أن تنام بعيدة عن أجساد أصحابه .

كيس وعلبة . (  لحظات ماقبل الكارثة )

بعد لحظات من التعريف بنفسي وماذا أريد ، بدأ عبد الملك بسرد قصته مع الكارثة التي قال إنه ما زال يتنفس رائحة بارودها .

يقول عبد الملك :  ” ما إن نزل الراكب في تمام الساعة الثانية صباحاً يوم الإثنين 18 يونيو 2018 ، 17 رمضان  نزلت من الحافلة بغرض زيارة صديق لي كانت الأجواء المحيطة بالمكان مقلقة نوعا ما .

 لم أكن أعرف ماذا يدور بالضبط يقول ،  لكن ما إن سمعت الإنفجار الأول وبدأت رائحة البارود تتصاعد لتخنق أنفاسي ، وبينما كنت أفكر بطريق للنجاة ، دفعني الفضول لتفتيش ذلك الكيس الاسود  المرمي جانباً في القرب من بوابة المقر المؤقت فضولاً لمعرفة لماذا هنأ وماذا في داخله؟

” اقتربت منه وكان شي في نفسي يقلقني ولم اكن اعرف حتى تسللت يداي لفتحه واذا هو يحمل الموت في داخله علبة صغيرة فيها اسلاك مهيأة للانفجار ” يقول عبد الملك . هو الموت يسكن ذلك الكيس ويستعد لحصد أعناقنا بتلك العلبة السوداء التي بدت قاتلة .

علبة صغيرة الحجم ناسفه ، ضمن عبوات عرفتها تعز خلال الفترة الماضية وحصدت مئات الضحايا المدنيين في شوارعها ، حيث لم تشفع الحرب بكل أهوالها لرفقائها بالسلاح التعايش بسلام  .

يواصل عبد الملك قصته :  ” صرخت حينها . صرخت بأعلى صوتي محذراً الناس : عبوة .. عبوة … عبوة ناسفة”  ” العبوة التي كانت في الكيس للنفايات  بالقرب منا في لحظة ظننتني قادر على إزاحتها عن الٱخرين أثناء محاولتي الفرار ورميها بعيداً عن من حولي  ” وانا اصرخ عبوة ناسفة ابتعدوا ابتعدوا هرع نحوي صديقي الشهيد فؤاد واخذها مني محاولاً تعطيلها دون جدوى ” .

يضيف عبد الملك ”  فؤاد ، الجندي في الشرطة العسكرية ، وصديقي الذي تألمت كثيراً لوفاته. كان يحاول بشجاعته وإقدامه تعطيلها قبل أن تنفجر ويموت متأثراً بشظاياها في المشفى كما علمت لاحقاً ، ما زاد من وجعي ” .

إلى مستشفي الثورة ومنه الى الهند 

بالنسبة لمحمد قائد والد عبد الملك ، نزل خبر وصول ابنه الثاني مستشفى الثورة بالاتصال الذي فاجأه في إحدى ليالي رمضان الفائت ، كالصاعقة رغم إنه كان يعلم بالانفجار ووقوع ضحايا مدنيين في نفس الشارع الذي يعمل فيه ابنه .

يقول : ” مثلت لرؤيته في المستشفى والقماش الأبيض يلفه وهو بحالة غيبوبة وقدمه قد بترت وعينه تمزقت ، صدمة لا انساها ذكرتني بالحادث الأليم الذي فقدت فيه ابني الأصغر إثر قذيفة هاون حطت قبل ثلاث سنوات على نفس الحي ، بجولة المرور”  .

ويضيف ، ”  في مستشفى الثورة وهو على السرير ، تمنيت لو أصرخ لأفرغ صدمتي ، لكن الخشية من إخافة أولاده فامتنعت جعلتني اتجرعها بداخلي ، فكل محاولات التطمين التي كنت اتظاهر بها كانت عاجزة عن إطفاء البركان الثائر بداخلي وكل ذلك الحزن الذي يجتاح مشاعري ويقطع قلبي الذي لم يعد يحتمل الصدمات ” .

يضيف عبد الملك : ” بعد عودتي من الرحلة التي انتهيت منها بقدمي هذه ، يشير للقدم الصناعية بجواره ، حيث الطفلة “ملاك” التي  ما زالت تتحسسها ، قعدت هنا حبيساً لهذه الغرفة نحو 9 أشهر ” .

لم أعد أفكر بالعودة للحافلة التي كنت اعمل عليها أو ممارسة عمل لكفاية أسرتي ، فالحال كما تراه يا صديقي عجز وضعف  . هكذا كان يتحدث عبد الملك بكلمات حزينة ينفطر لها القلب وتدمي الفؤاد .

لم يفقد عبد الملك رجله التي كانت تقله لمصدر رزقه الوحيد الذي كان يقتات منه وأسرته ويدفع منه إيجار المنزل ، بل أمله الذي انقطع حتى بعودته لممارسة حياته الطبيعية في ظل الكم الهائل من الضغوط النفسية والمادية التي تحيط به . بعد الإعاقة.

9 أشهر بين اربعة حيطان

برجل واحدة وعين يحاول عبد الملك جاهدا الخروج من هنا ليشتم قليلاً من الهواء .يغالب الجراح التي نخرت مناطق جسده ، يقاوم الألم والوجع ، ولم يكن بعد قد استوعب ماذا حدث له وكيف تم ذلك ، وما ذنبه وذنب أطفاله ، وكل الأبرياء الذين حصدتهم نيران الصراعات السياسية فوق نيران الحرب وقذائفها التي عانت منها المدينة من قبل .

يتنهد عبد الملك . يأخذ نفساً عميقاً تملأه الحسرة ، لينثر بعض كلمات بدأ من خلالها وكأن اليأس قد تسلل إلى نفسه ، حيث أمسى يتمنى الموت للخروج من مأساته هذه .

يقول :  ” نعم ،  نجوت من الموت ولكنني فقدت رجلي الذي تحملني وعيني التي ابصر بها وصرت أتمنى الموت بدل  الاعاقة . لكنه يستدرك بإيمان بالغ بالقول : الحمد لله على كل حال ، قضاء الله وقدره ولا اعتراض عليه ” .

ويكرر التعبير عن مستوى الياس بهذا السؤال : وما قيمة الحياة ان تظل عاجزاً ضعيفاً عن الحركه والتنقل والعمل لتوفير متطلبات المعيشة ؟ السؤال الذي يصعب عليك مواساته معه غير الإجابة عنه .

 وضع صعب

بأسى بالغ ! ، يتذكر عبد الملك كيف كان يرسم الابتسامة على وجوه صغاره بعودته والريالات المعدنية . يتذكر ذلك لتخط أدمعه على خده طريقاً دفعته للمقارنة الحزينة بين ما كان وما وصل إليه من أنه بات معاقاً وعاجزاً عن الحركة ، مسجوناً بين اربعة حيطان ، غارقاً بين همومه ، لا يعرف ما الذي يمكنه فعله لاولاده وطفلته تلك الصغيره التي تواجهه بين الحين والٱخر ببعض طلباتها الصغيرة والكبيرة بالنسبة له كقطع الحلوى التي بات عاجزاً عن توفيرها .

لا يملك عبد الملك من المال شي غير  ما كان يتحصله من ألأجر اليومي بالكاد يغطي مصاريفه اليومية ، فلا وظيفة معه ولا ضمان إجتماعي ، ولا حتى منظمات من تلك التي يسمع بها . فقط ينتظر ما يجود به فاعلوا الخير .

 هموم كثيرة اثقلت كاهلة المتعب ونفسه المحطمة فعليه استحقاقات كثيرة كما يقول ، فهو يدفع ايجار المنزل 30 الف شهرياً إضافة الى الكثير من الاشياء اللازمة لبقاء اسرته على قيد الحياة ، فابنه الكبير الوحيد من الذكور لم يبلغ الثلاثة اعوام  من عمره مازال طفلاً لايهتم بشئ غير الحلوى والالعاب .

هكذا شرح لنا عبدالملك بعض من مأساته ومعاناته التي حالت بينه وبين الحياة كما ينبغي. من حالته الصعبة مادياً ومعنوياً ونفسياً بعد ان اصبحت أسرة مكونه من خمسه افراد يعيشون وضعاً مادياً صعب وتفتقر لأبسط الاحتياجات .

وجع مستمر ..

يقول عبدالملك ” أتألم حين ارى كل من حولي يحاولون الاشفاق عليّ او ينظر الىّ احدهم بنظرة شفقة خاصة اصدقائي واقاربي رغم ما اعيشه من وضع صعب وحالة سيئة إلا انني مازلت احاول ان اكون قوياً رغم ضعفي اتعمد ان لا استسلم لعجزي احاول وبكل الوسائل ولكني اجد الضعف يخرج من قلبي وروحي حين يأخذني التفكير إلى بيتي وأطفالي الصغار ما الذي يحتاجونه وكيف اوفر لهم ذلك وان تظاهروا بعدم الحاجة  ، فهم أصلاً بحاجة الى الكثير من الأشياء التي فقدوها بعد اعاقتي .! “

وبنبرة حزن والدموع تتسلل من عينية  يتسائل  ” كيف سيكون القادم ؟ ،فانا لا املك وظيفه حكومية او راتباً قد يسندني في حاجات البيت كل ما كنت احصل عليه اجره عملي اليومي الذي كنت اعمل فيه بيدي هاتين ؟ اما اليوم فانا منتظر رحمة الله واخشى من الضياع على بيتي ” . اربعه ابناء ولد وثلاث بنات . يحتاجون الى رعاية واهتمام يحتاجون الى تعليم الى صحة الى غذاء ، ومنزل يحتاج ايجار شهري ! ، هذا هو الهم الذي يثقل كاهلي ولا استطيع الهروب منه مهما حاولت مهما حاولت .

خذلان وتقاعس الجهات الحكومية

تقاعس وخذلان الجهات المختصة تجاهنا ضاعف من المأساة!

يقول عبدالملك ” هناك خذلان تجاهنا من قبل الحكومة اليمنية لم اتلقى اي دعم او اهتمام من الجهات الحكومية في الجانب الصحي سواءً او الاقتصادي  سوى بعض من الدعم البسيط من قبل فاعلين خير الذين أولون اهتماماً بي بعد 9 اشهر من الحادثة وتسفيري الى الهند لمتابعة علاجي وتركيب قدم صناعي وعين بلاستيكية  وبعضها ساعدتني قليلا في توفير بعض المتطلبات للبيت الذي فيه 6 اشخاص انا وزوجتي واولادي الاربعه جميعهم اطفال . اكبرهم بنت في عمر ال14 عام

اكثر من 1330 معاق بسبب الحرب  بمدينة تعز


                 "انفوجرافيك يوضح عدد المعاقين في تعز بسبب الحرب"


عبد الملك واحد من  1330 معاق بسبب الحرب حسب رصد لمؤسسة “رعاية لأسر الشهداء والجرحى” بمدينة تعز . وفي احصائية حصل عليها موقع “صوت إنسان” افادت ان 545 معاق من المدنيين  1085 من العسكريين أُعيقوا بسبب الحرب المندلعة في تعز منذ العام 2014م  .

وتشير الاحصائيات  بأن 63 معاق من النساء و 153 من الاطفال يعيشون معاناة لإعاقات دائمة سترافقهم طول حياتهم .

إعاقات متنوعة ومختلفه مابين بتر الاطراف وإصابات بالشلل الكلي والجزئي  واخرين فقدوا اعينهم ومنهم من حمل الاثنتين معاً رجل وعين كـ “عبدالملك”

حيث بلغ عدد مبتوري الاطراف 621 شخص ، واخرين أُصيبوا بالشلل حيث بلغ عددهم 220 مصاب  بينما من فقدوا اعينهم بلغ عددهم 489 شخص حسب الرصد منذ العام 2015 حتى 2019/5/7م ، عبد الملك واحد ممن تسببت الحرب في اعاقتة وحمل إعاقتين دائمتين بتر قدمة الايسر وفقدان عينه اليمنى .

لم تكن الحرب يوماً منصفة لاحد ولكن آثارها لاتفرق بين عسكريين او مدنيين اطفال اونساء شباب او شيوخ بل تحرق الاخضر واليابس.

الاهتمام بالجرحى والمعاقين المدنيين واجب إنساني قبل ان يكون إلزامي على الحكومة اليمنية لرعاية شعبها الذي انهكتة الحرب ودمرت كل احلامة وطموحاته .


لقرائة القصة من المصدر اضغط هناء



ردرود الأفعال:

تعليقات