القائمة الرئيسية

الصفحات

السرطان في تعز.. أحلامٌ عند الحاجز!





تعز :- محمد علي محروس

كل شهر يمر، تتجشم فيه أحلام قاسم (24 عامًا) عناءَ الوصول من مديرية شرعب الرونة 36 كيلو مترًا شمال محافظة تعز اليمنية، إلى مركز الأمل لعلاج الأورام والذي يعد الملاذ الوحيد لمرضى السرطان في أكثر محافظة إصابة بالداء القاتل من بين المحافظات اليمنية بنسبة 14 في المائة.
وبلغ عدد مرضى السرطان 2295 مصاب منذ بداية الحرب منهم 620 خلال عام 2018 فقط، بحسب بيانات صادرة عن المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان في تعز.
فقبل اندلاع الحرب التي تشهدها تعز منذ أربع سنوات كانت أحلام تستغرق في رحلة الوصول للمركز، في قلب المدينة، ساعة واحدة، لكنها، ومنذ مطلع 2015، وبسبب الحصار المفروض على مدينة تعز من قبل جماعة أنصار الله (الحوثيون)، باتت تحتاج إلى عشر ساعات كاملة، من أجل الحصول على جرعتها الدوائية، وقضاء مدة تعاطيها للعلاج في المركز بحسب بروتوكولاتها المحددة.

معاناةٌ مضاعفة

تعاني أحلام من سرطان الدم الليمفاوي الحاد، أحد أعنف أنواع السرطان، وتحتاج إلى علاج مكثف، ورعاية طبية عالية قبل تعاطيها جرعها الكيماوية وبعدها؛ نتيجةً لحدوث المضاعفات المصاحبة لذلك، كون سرطان الدم الليمفاوي الحاد يصيب مصنع الدم (نخاع العظم)، مما يؤدي إلى فشله، فيصبح غير قادر على إنتاج خلايا الدم البيضاء، المسؤولة عن حماية الجسم، وكذا خلايا الدم الحمراء المسؤولة عن تكوين الدم، والصفائح الدموية المسؤولة عن التجلط والنزيف في الجسم، كما أفاد بذلك الدكتور أحمد محمد سعيد، أخصائي أورام الدم والغدد الليمفاوية بمركز الأمل لعلاج الأورام، والمسؤول عن حالة أحلام في المركز، وهذا ما يُوجِبُ على أحلام ضرورة الحضور الشهري، لتلقي علاجها وتقييم حالتها، كما يقول.
في الطريق إلى تعز، تواجه أحلام صعوبات جمّة، شأنها شأن بقية المرضى القادمين من ريف المحافظة، بسبب الحواجز المنتشرة على مداخل المدينة من قبل طرفي الحرب.. كما أنها تتعرض للكثير من الانتهاكات.. توقيفٌ قسري يستمر لساعات، وتهديداتٌ بالحجز لمدة 24 ساعةً، إن لم تدفع لهم المال للسماح لها بالعبور، يحدث ذلك تارةً وهي تنزف، وتارةً وهي في قمة الإعياء والتعب، ولا تشفع لها إصابتها بالسرطان للمرور الفوري كحالة إنسانية استثنائية، فهويتها التي تؤكد إصابتها بالسرطان، تسببت لها مرةً بالتوقيف للتحقيق، ودفعت مقابل الخروج 15000 ريال يمني (30 دولارًا)، في مشهد يُظهر كيف تجاوزت الحرب كل الأعراف والتقاليد والقيم اليمنية!
كانت أحلام تدفع 20 ألف ريال يمني (40دولارًا)، للدخول إلى تعز، وبسبب الحرب، والحصار، وتقطع سبل الوصول، وارتفاع أسعار الوقود، وتكاليف السفر، فإنها باتت تدفع ثلاثة أضعاف المبلغ، وهذا ما أثقل كاهلها حسب وصفها، فهي تخرج من قريتها بشرعب الرونة، إلى مفرق شرعب ومنه إلى منطقة هجدة ومن ثم إلى جبل حبشي ومنه إلى الضباب، جنوب غرب المدينة (والتابعة لمديرية صبر الموادم) وصولًا إلى تعز، في رحلة مضنية تتطلب منها عشر ساعات كاملة، تصل على إثرها إلى المركز منهكةً وتعاني من نقص في المناعة والصفائح الدموية، وربما تتعرض لانتكاسة تصل إلى حد الخطر على صحتها.


عقابٌ جماعي

منع وصول المريض – بأي شكل كان- إلى المستشفى أو المركز الصحي يعد جريمةً يُعاقب عليها القانون المحلي والدولي، وهو ما شددت عليه مواد القانون الدولي وقانون حقوق الإنسان معتبرةً ذلك بمثابة جرائم الحرب بغض النظر عن الطرف المتسبب، وهو ما أفاد به المحامي والناشط الحقوقي علي الصراري، مدرجًا ذلك على قائمة العقاب الجماعي للمدنيين في تعز، داعيًا المنظمات الدولية والمحلية بضرورة التوثيق والرصد لهذه الانتهاكات، لأنها جرائم لا تسقط بالتقادم، حسب وصفه.
ويرى الصراري أن توقيف المرضى وحجزهم لساعات وتعريضهم للموت يصنفه القانون في إطار القتل العمد، خاصةً والمنتهكون يرون المرضى أمامهم وهم في حالة حرجة ولا يحتملون التأخير، وبحاجة للتدخل الطبي العاجل ولا يسمحون لهم بالمرور، وهذا الاستهداف المتعمد، يندرج ضمن الانتهاكات الستة الجسيمة التي تصنفها الأمم المتحدة.
إضافة شرح

انتهاكاتٌ جمّة وكلفٌ باهظة
مهند عادل، 12 عامًا، مصاب بسرطان الدم الليمفاوي، هو الآخر عانى كثيرًا، في سبيل الخلاص من السرطان.. ففي الوقت الذي يحتاج فيه للمتابعة اليومية في مركز الأمل، فإنه يكابد مشقة السفر من حين لآخر، فبدلًا من احتياجه لـ15 دقيقة للوصول إلى وسط مدينة تعز، بات يحتاج إلى 6 ساعات على الأقل، مع تكاليف باهظة على مستوى التنقل له ولمرافقيه، عوضًا عن المسافة التي يقطعها، على متن سيارة تتسلق الجبال الوعرة، وسط طرق ترابية ملتوية، تمتد لـ 100 كيلو مترًا، عبر مديرية دمنة خدير، جنوب تعز، وجبال الأقروض، وصولًا إلى الضباب، ومنها إلى المدينة، فيما لا يفصله عن مقصده في الوضع العادي سوى 10 كيلو مترات، وعشرات الحواجز العسكرية التي تمنع العبور اليوم، بسبب الحرب المستمرة منذ سنوات.
يأتي مهند من منطقة الستين، شمال مدينة تعز، ويتعرض في الطريق إلى مخاطر جمة، فهو مهدد بتفاقم حالته الصحية في أي وقت، حكمه حكم كل مرضى السرطان، الذين يعانون كثيرًا من الأعراض الجانبية المصاحبة لمرضهم.
تقول شقيقته سناء: نعاني كثيرًا أثناء مرورنا بمنطقة الأقروض، فعلى امتداد الطريق نتعرض للتفتيش، ولا يوجد مركز صحي واحد، في حال حدث لمهند أي طارئ، وهو ما اضطرنا للاستئجار في المدينة، والمكوث فيها ثمانية أشهر؛ حتى نستطيع متابعة الحالة الصحية لمهند عن قرب.
لكن مهند، قضى نحبه، حين هُزم في معركته ضد السرطان في الـ 25 يناير/ كانون الثاني 2019، لينضم إلى قافلة الراحلين، والذين تجاوز عددهم 1000 مصاب منذ بداية الحرب، 644 منهم خلال عام 2015 فقط، وهو ما لم يحدث منذ افتتاح المركز في مايو 2012، بحسب بيانات صادرة عن المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان في تعز.
في نقطة “وَهِر” التابعة للجيش الوطني بمديرية جبل حبشي، جنوب غرب تعز، استوقفت أحلام لمدة ساعتين، ولم تشفع لها إصابتها بالسرطان بالمرور إلا بعد انقضاء الساعتين، وليست أحلام وحدها التي تم توقيفها، هناك أيضًا سلطان سيف، جد الطفلة سناء قاسم، 7 سنوات، الذي يأتي مع حفيدته من منطقة الرمادة بمديرية التعزية، غرب تعز، يحتاج إلى 6 ساعات من أجل الوصول، فيما لم يكن يحتاج من قبل سوى ساعة واحدة، هو الآخر يتعرض معية سناء للتوقيف والمسائلة من قبل نقاط الجيش الوطني والحوثيين، وتارةً يُسمح له بالمرور بشق الأنفس، وتارةً لا يُسمح له، رغم إثباتات الإصابة الخاصة بسناء.
يقول قاسم: إنه لم يعد يحصل على احتياجات حفيدته الدوائية كما كان قبل الحرب، وبات اليوم يشتري بعضًا من الأدوية التي كان يحصل عليها مجانًا.

احتياجاتٌ نفسية
أحلام أيضا تسببت الحرب لها بفقدان الأدوية المجانية، كما فقدت حصولها على جرعة الكيماوي بشكل مستمر. ويخشى الطبيب المختص، تعرض أحلام لانتكاسة مثلها مثل الكثير من المرضى، حيث وأنها تحتاج لزيارة مركز الأمل لتلقي جرعات من الكيماوي وفق خطة علاجية تستمر ثلاث سنوات ونصف. في الثمانية الأشهر الأولى تكون الجرعات بشكل شبه يومي، ورغم الحرب التي تشهدها تعز اليمنية والتي قطعت الجغرافيا بين المدينة وضواحيها الريفية لم تتخلف أحلام عن زيارة مركز السرطان وفق خطة العلاج فوصلت حالتها الصحية إلى مرحلة مستقرة، وتحتاج للمتابعة بإجراء فحوصات دورية، فضلا عن احتياجها وكل مرضى السرطان إلى الدعم النفسي الذي يعزز لديها مقاومة المرض. يقول الطبيب المتابع لحالة أحلام.
ويمثل الدعم النفسي لمريض السرطان أهمية في تعزيز الجانب المناعي ما يجعل استجابته للدواء أكثر فعالية وتصبح قابليته للشفاء أكثر احتمالًا، وفقا لثريا الذبحاني، أخصائية في الإرشاد النفسي التي تؤكد أن الحرب تضاعف عند مريض السرطان المعاناة النفسية، مما يُضعف مناعتَه، فتصبح قابليته للشفاء ضئيلة جدًا، لذلك الدور على الجميع في رفع معنويات المريض من خلال تثبيت الأفكار الإيجابية وتخليصه من الأفكار السلبية وزرع الثقة بالله.
وترى الذبحاني أن مجرد فكرة السفر عبر الطرق الجبلية الشاقة بحد ذاتها مشكلة بالنسبة للأصحاء فما بالك بمريض السرطان، الذي يعاني من آلام عدة، وهو ما يستوجب عناية خاصة لمرضى السرطان، وهذا برأيها مسؤولية الدولة والمنظمات الدولية والمجتمع، فالدراسات تؤكد أن نسبة الشفاء مشتركة بين التدخل الطبي والدعم النفسي.

آلامٌ وآمال
لا تعد أحلام وحدها، في مصيدة السرطان، فبالإضافة إليها، هناك أكثر من 7300 مصاب في مركز الأمل لعلاج الأورام بتعز، يتردد منهم نحو 120 حالةً بشكل يومي، لتلقي خدماتهم الطبية والتشخيصية والنفسية، من تعز، ومحافظات أخرى مجاورة كإب والحديدة ولحج والضالع، وذلك يعود لمجانية الخدمات المقدمة في المركز، ونوعيتها مقارنةً بالمراكز والوحدات المماثلة في البلاد، بحسب مختار أحمد سعيد، مدير المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان بالمحافظة.
ويؤكد مختار أن المركز بحاجة إلى تدخل عاجل لترميمه وإعادة تأثيثه وتجهيزه ليكون قادرًا على استيعاب آلاف المصابين، فهو يقدم خدماته اليوم من مبنىً مؤقت، مزدحم، لا يفي بكافة المتطلبات للمرضى خاصة على مستوى الرقود والإعطاء الكيماوي، بعد استهداف مبناه الرئيس في النقطة الرابع بقذائف دمّرت محتوياته، وأخرجته عن أهلية العمل.
ويرى أيضًا أن نزوح التجار، وشحة الدعم المجتمعي، وعدم توفر الأجهزة المتخصصة، وعدم توفر الأدوية في وقتها المناسب من أبرز الصعوبات التي يعاني منها المركز اليوم.
ويعتبر مختار أحمد سعيد أن استهداف المركز وإغلاقه وتدمير أجهزته من قبل آلة الحرب يعد أكبر انتهاك بحق مرضى السرطان، إضافةً إلى شحة الإمكانيات بسبب توقف الدعم في سنوات الحرب الأولى، وهذا ما انعكس على وضع المرضى، هناك من توفي في منزله ولم يستطع الوصول أو الحصول على دوائه.
ويعزو ذلك إلى غياب المنظمات الدولية عن أداء دورها في الوقت المناسب، وعزوفها عن الاهتمام بمرضى السرطان خلال فترة الحرب، رغم التواصل المستمر بها؛ لحاجتنا إليها في ظل توقف الدعم الحكومي وهجرة رجال الأعمال.
ويقدّر مدير المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان بتعز الدعم الذي وصل من بعض المنظمات “وإن كان غير كاف من قبل منظمات وهيئات إقليمية، وكذلك منظمة الصحة العالمية التي بدأت من العام الماضي بمدنا بـ 5000 لتر من مادة الديزل، وأصناف دوائية لا يتجاوز استهلاكها الأشهر، ولا تفي بالاحتياج الفعلي”، ويأمل أن يكون هناك دور أكثر شمولية خلال هذا العام، في ظل عودة الدعم الحكومي الذي يغطي احتياج 170 حالة من بين أكثر من 7300 مصاب، ويعلّق آمالًا كبيرة على منظمة الصحة العالمية لتكون هناك فعالية أكثر لصالح مرضى السرطان في تعز، على مستوى الدواء وإعادة تجهيز المركز.
وتعتبر أحلام من بين 311 مصابًا بالسرطان في شرعب الرونة، التي تأتي ثامنةً على لائحة عدد الإصابات في المركز، خلف مديريات المدينة، المظفر بـ 688 حالة، والقاهرة بـ609 حالات، وصالة بـ 538 حالة، ثم التعزية بـ 469 حالة، وجبل حبشي بـ 358 حالة، وصبر الموادم بـ 338 حالة، وشرعب السلام بـ 322 حالة، إضافة إلى مديريات تعز الأخرى، ومحافظات مجاورة.

استجابةٌ محدودة
دعمت منظمة الصحة العالمية مركز الأورام في تعز من خلال توفير إمدادات الوقود والعلاج الكيماوي، هذا ما قالته منيرة المهدلي، موظفة الاتصال بمنظمة الصحة العالمية في اليمن، مضيفةً أن قلة دعم المنظمة لمرضى السرطان في تعز كان بسبب أن هناك نقص في تقدير عدد مرضى السرطان في تعز، لذا، تعمل منظمة الصحة العالمية على رفع مستوى الاستجابة في عام 2019.
وبحسب منيرة، في عام 2019، فإن منظمة الصحة العالمية ستأخذ في الاعتبار زيادة الدعم وتديم المستوى السابق من حيث توفير الوقود والإمدادات الطبية.
وعن الانتهاكات التي تعرضت لها أحلام وعدد من المرضى والدور المنوط بالمنظمة ردت منيرة أن هذا ليس من اختصاص منظمة الصحة العالمية.
أما منظمة أطباء بلا حدود، فاعتذرت على لسان ممثلها في تعز عن الرد على تساؤلاتنا؛ لأسباب أمنية!
تيسير أحمد عبدالغني، نائب إدارة الإعلام والتثقيف الصحي بمكتب الصحة العامة والسكان في محافظة تعز، يقول أن ما يقدمونه في المكتب لمرضى السرطان في تعز يتمثل في تقديم الحد الأدنى من الخدمات حسب الإمكانيات المتاحة، وأن دورهم إشرافي بالدرجة الأولى على مركز الأمل لعلاج الأورام، مثله كبقية المستشفيات والمراكز الأخرى في المحافظة.


ويصف تيسير عزوف المنظمات الدولية عن دعم مرضى السرطان، بالمسألة المعقدة، معللًا ذلك بتركيز المنظمات الدولية والمحلية على جوانب أخرى أنتجتها الحرب من أوبئة وأمراض، من باب التدخل الطارئ، “لكننا نعمل على توجيه الكثير من المنظمات للاهتمام بمرضى السرطان والفشل الكلوي والأمراض المزمنة، إضافةً للتواصل مع وزارة الصحة وجهات أخرى داعمة لرعاية مرضى السرطان، وذلك نابع من مسؤوليتنا تجاه هؤلاء المرضى باعتبارنا المعنيين بذلك”.
أما أحلام فلا أمنية لها غير الشفاء، والعودة إلى بساط الحياة من جديد؛ لتتمتع بحقها في الوجود كاملًا لا نقصان فيه، وهذه الأمنية تبقى معلّقةً، ما دام الحصار قائمًا، وما دامت احتياجاتها وآلاف المرضى من دواء وأمان غير متوفرة، في المكان والزمان اللذين يحتاجون فيهما إلى ذلك… أمنياتٌ مبعثرة، واحتياجات منقوصة، ومناشدات لا صدى لها، وهذا ما يعتري رحلة البحث عن النجاة من السرطان، لآلاف يتقلبون بين الموت والحياة، لسان حالهم: الأمل وحده لا يكفي!


المصدر : موقع "صوت إنسان" لقرائة القصة من المصدر إضغط هنأ



ردرود الأفعال:

تعليقات