صنعاء – وسام محمد
إحدى النصائح الأثيرة التي تقال عادة لأي صحفي يعمل في الميدان: احرص على ألا تجعل من نفسك خبرًا مهمتك نقل الخبر وكتابة قصص الناس من حولك. لكن أحيانًا يحدث أن يصبح الصحفيون قصة صحفية بدون إرادة منهم. هذا ما حدث للصحفيين اليمنيين عند انقطاع شبكة الإنترنت بشكل كلي عن كامل اليمن، في الساعة الواحدة من فجر الجمعة الماضية، 21 يناير 2022.
خلال الأيام الثلاثة الأولى من انقطاع شبكة الإنترنت، واجه الصحفيون اليمنيون في الداخل كل أنواع القلق والمخاوف، قبل أن يقبضوا على أوقات فائضة، ويشرعوا في القيام بنشاطات غير اعتيادية، لكن أيضًا دون التوقف عن التفكير بحجم المصيبة التي وقعت، والبدائل الممكنة لتخفيف وطأتها. فالصحفي بات اليوم يعتمد على شبكة الإنترنت بشكل كلي.
القلق كسمة بارزة
كان القلق هو السمة البارزة التي صبغت حياة الصحفيين اليمنيين في الداخل خلال الأيام الثلاثة الأولى من انقطاع شبكة الإنترنت، ليس فقط بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى المصادر والمعلومات، ولكن أيضًا عند التفكير باستمرار عملهم مع تعذر الاتصال بالجهات التي يعملون لصالحها، ومعظمها خارج اليمن.
يقول الكاتب والصحفي زكريا الكمالي، الذي يعمل مراسلًا لصحيفة “العربي الجديد” اللندنية، إنه عاش لحظات عصيبة طوال الأيام الثلاثة الأولى لانقطاع الإنترنت، وأنه لم يعش في مثل هذا القلق منذ بداية الحرب.
ويضيف الكمالي في حديثه لـ”المشاهد” أن الصحفي اليمني “حتى في ظل وجود خدمة الإنترنت، يكافح للحصول على معلومة دقيقة مع تزاحم الأخبار الدعائية والمضللة، لكن انقطاع هذه النافذة الوحيدة واستحالة النزول الميداني لتقصي الحقائق عن قُرب، جعلنا نستسلم بشكل تام”.
أما رانيا عبدالله، وهي صحفية مستقلة، وتعمل من مدينة تعز، فإن أكثر شيء شغلها طوال أيام انقطاع شبكة الإنترنت، هو كيف ستتمكن من إرسال موادها الصحفية إلى الجهات والمنصات التي تتعامل بها.
تقول رانيا في حديثها لـ”المشاهد” إن انقطاع الإنترنت أثر على عملها بشكل كبير. فقدت التواصل مع كثير من المصادر. وفقدت التواصل مع الزملاء في الخارج، وبدلًا من أن تجد وقتًا فائضًا، جراء انقطاع الشبكة، وجدت نفسها تحت ضغط رهيب “المصادر التي كان من الممكن التواصل معهم عبر الإنترنت، أصبحت مضطرة للنزول الميداني وعمل مقابلات مباشرة معهم”.
أما الصحفي المستقل محمد الحريبي، فقد وجد نفسه تائهًا: “في الأيام الثلاثة الأولى كنت تائهًا، منذ الصباح أتنقل بين القنوات التلفزيونية الإخبارية، وأشعر بالعجز كلما رأيت خبرًا يستحق أن أبحث عن تفاصيل أكثر حوله”.
الوقت الفائض
بعض الصحفيين ممن تفاعلوا مع استطلاع “المشاهد” عبر رسائل خاصة في تطبيق “واتساب”، لجأوا إلى القنوات التلفزيونية لمتابعة الأخبار، بعد سنوات من الانقطاع عن مشاهدة الفضائيات. بعضهم تذكر أن لديه شاشة تلفزيونية.
وكان المحزن بالنسبة لهؤلاء هو أن القنوات الفضائية، لا تتحدث عن انقطاع شبكة الإنترنت إلا لمامًا. كأنها مسألة عادية. لو أن ذلك حدث في دولة أخرى، لرأينا تغطيات متواصلة واستديوهات تحليلية على مدار الساعة. لكننا في اليمن البلد المنسي والمعزول على مدى التاريخ، على حد وصفهم.
الكمالي : وجد وقتًا كافيًا لمتابعة بطولة أمم أفريقيا عن كثب، وأيضًا متابعة الدوريات الأوروبية. فقد كانت الكرة ملاذًا للتخفيف من وطأة القلق جراء انقطاع الإنترنت
توفر الكثير من الوقت الفائض، جعل البعض يعودون إلى قراءة الكتب الورقية، يقول أحد الصحفيين: حصلت على رواية المقامر من أحد الأصدقاء في 2011، لكني لم أجد الوقت حينها للقراءة في زحمة الأحداث، ثم مرت السنوات، وأصبحنا نعتمد على الكتب الإلكترونية، ثم أصبحت القراءة مسألة شاقة. لكن مع انقطاع الإنترنت تذكرت أن هناك كتبًا مؤجلة. أخرجتها، وقرأت رواية المقامر في ليلة واحدة”.
الكمالي قال إنه وجد وقتًا كافيًا لمتابعة بطولة أمم أفريقيا عن كثب، وأيضًا متابعة الدوريات الأوروبية. فقد كانت الكرة ملاذًا للتخفيف من وطأة القلق جراء انقطاع الإنترنت، “فضلًا عن العودة لأرشيف أفلام سينمائية في جهاز الكمبيوتر المحمول، لم يتم تحديثه منذ عامين”.
وكان الحريبي يتنقل في الصباح بين الفضائيات، وخلال فترة المساء يلجأ للقراءة. يقول في رواية تجربته لـ”المشاهد”: “قرأت أربعة كتب تخصصية كنت قد أجلت قراءتها كثيرًا، وقرأت روايتين ومجموعة شعرية”.
مواصلة العمل
لجأ بعض الصحفيين إلى مواصلة العمل على أمل أن يجدوا منفذًا لإرسال نصوصهم للجهات التي يتعاملون معها. وبينما لايزالون لا يعرفون كيف لهذا أن يحدث، هناك مشكلات أخرى باتت تواجههم أثناء عملهم على نصوصهم الصحفية، أبرزها عدم قدرتهم على تحديد تواريخ الأحداث التي وقعت في الماضي بدقة. هناك أحداث تتقاطع مع نصوصهم، ويجب ذكرها، ومنذ أن تم الاستغناء عن الذاكرة كان يتم الاستعانة بـ”جوجل” لتحديد ذلك. أيضًا هناك مصطلحات يجب تعريفها بدقة.
لم يعد الصحفي يمتلك ذاكرة تساعده على استدعاء ما يريده منذ أن بدأ يعتمد على السيد “جوجل”. أيضًا القواميس والمراجع التي قد يحتاجها الصحفي لإتمام عمله، أصبحت هي الأخرى متعلقة بزمن مضى.
لم يتوقف الكمالي، عن العمل. ولم يلجأ كصحفيين آخرين إلى متابعة الأحداث من القنوات التلفزيونية. فقد تفرغ لكتابة تقارير اجتماعية وإنسانية غير محكومة بفترة زمنية، لم يستطع إنجازها في السابق.
ووفقًا لتجربته يقول: “هناك الكثير من الأفكار تراود الصحفي في لحظات العزلة، لكن الكتابة عن قضية سياسية أو عسكرية تحتاج دائمًا للعودة إلى شبكة الإنترنت للبحث عن أرقام أو معلومة دقيقة للشخصيات والأحداث والأماكن”.
أيضًا رانيا تحدثت عن تجربتها، بالقول إنها خلال أيام انقطاع الإنترنت، واصلت العمل على تحقيق كانت بدأت تعمل عليه. “قمت بالنزول الميداني لإجراء المقابلات مع المصادر، وكنت ألجأ لاستخدام الاتصال الهاتفي للتواصل مع المصادر الذين يتعذر الالتقاء بهم”. وكانت العملية مرهقة، على حد وصفها.
تكيف الصحفيون اليمنيون، منذ بداية الحرب، على ظروف شتى، وخصوصًا الانقطاع الطويل للتيار الكهربائي، وبطء الإنترنت. وكان هناك بدائل سريعة. خلال العام الأول من اندلاع الحرب في اليمن 2015، لم ينقطع الإنترنت تمامًا، لكن الحصول عليه كان قد أصبح شاقًا. إلى جانب انعدام الكهرباء، كان الإنترنت ضعيفًا للغاية، ولا يتوفر إلا في أماكن محدودة. حينها كان الصحفيون، خصوصًا في تعز، قد نزحوا إلى الأرياف، لكنهم ظلوا يحاولون مواصلة العمل -كما يفعل البعض الآن- ثم يذهبون إلى أقرب مكان يتوفر فيه إنترنت، ويرسلون نصوصهم.
حينها انتشر في الهواتف الذكية للصحفيين، تطبيق ويكيبيديا، الذي ساعدهم في البحث عن أي شيء يريدونه دون الاتصال بالإنترنت. وقد كانوا يحصلون عليه عبر طرق النقل التقليدية، بالبلوتوث وتطبيقات النقل الوسيطة. لكن بعد ذلك، ومع عودة الإنترنت، وبالنظر إلى أن التطبيق كان يأخذ مساحة واسعة في ذاكرة الهاتف، جرى التخلص منه.
البدائل الممكنة
انقطاع شبكة الإنترنت وعدم وجود أي حديث عن عودته، كان قد جعل الصحفي الذي لا يجيد عملًا آخر يفتح المجال لخياله، وينفتح على خيارات راديكالية. فقد تذكر الحريبي ميزة إرسال التغريدات عبر رسائل إس إم إس. وهي ميزة كانت منتشرة مع بداية إطلاق موقع “تويتر”، حينها لم يكن قد أصبح هناك هواتف ذكية، والكثير من الحواسيب. فكان الناس يغردون عبر هواتفهم العادية. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، يقول: “فكرت بالبحث عن أرخص جهاز إنترنت فضائي، وحاولت كثيرًا التوصل إلى ذلك، لأنه البديل الأوحد لنا كصحفيين، وقبلها حين فشلت في إيجاد مصدر إنترنت بديل في مدينة تعز”.
أما رانيا التي سيكون عليها أن ترسل بالتحقيق الذي تعمل عليه خلال نهاية شهر فبراير القادم، فكانت قد بدأت تفكر جديًا في البدائل التي يمكنها اللجوء إليها في حال استمر انقطاع الإنترنت. “فكرت أن أذهب إلى عدن حال اكتمال التحقيق لإرساله، والاتفاق مع المنصات التي أعمل معها على مقترحات صحفية جديدة”.
يعتقد الكمالي أن “ما حدث من عزلة إلكترونية مؤخرًا سيجعل الكثير يفكر بخيارات أخرى؛ إما البحث عن خدمة إنترنت لاسلكي عبر الأقمار، أو الانتقال إلى مناطق توفر الإنترنت”. فالصحفي، بحسب ما يعتقد، “لن ينتظر طويلًا حتى يخسر وظيفته، وخصوصًا من يعمل كصحفي حر مع وسائل مختلفة لا تتفهم الظروف التي يعيشها”.
المصدر موقع المشاهد نت
تعليقات
إرسال تعليق