حسن العديني
كاتب صحافي يمني
ثمة علاقة بين الحرب وبين لعبة كرة القدم.. ما هي طبيعتها؟
الواقع أنني آخر من يجوز له أن يفتي في هذا، فاللعبة شأن لا يستهويني كثيرًا. والظاهر أن كل لعبة هي حرب على نحو ما. حرب بين خصوم بأدوات وأسلحة لا تقتل. ومثل أية حرب يتم إعداد الفرق وإجراء المناورات والتدريبات الميدانية. وفيها تحدد الأهداف والاستراتيجيات، وتعد الخطط، وتمارس التكتيكات لمعركة ينتصر فيها الأكثر لياقة ومهارة.
في بعض الألعاب، يبذل المتبارون الجهد والعرق، وفي بعضها الآخر، ليس من بذل غير الجهد الذهني. أما الحرب فهي مباراة بالسلاح والنار يتصبب فيها عرق كثير، وتسيل دماء غزيرة، وتسقط جثث، وتتناثر أشلاء.
على أنني لم أقصد هذا النوع من التشابه والاختلاف بين الحرب وبين لعبة كرة القدم. وكنت قد قرأت مرة في مجلة مصرية مقالًا لمحرر رياضي، أرجع نشأة لعبة كرة القدم إلى فترة تخلص الإنجليز من الاحتلال الدنمركي، مطلع القرن الحادي عشر، حين وجد الإنجليز أنفسهم بعد حرب منتصرة، يركلون رؤوس الدنمركيين المتناثرة في الطرق والساحات، ويتقاذفونها بأقدامهم. وكذلك فقد أطلق الإنجليز على الكرة رأس الدنمركي.
لقد نسيت تلك الحكاية، أو وضعتها في رف مهمل من رفوف الذاكرة، حتى شدني انتزاع اليمنيين الفرحة من أوجاع الحرب، بعد فوز فريق الناشئين بكأس غرب آسيا. لكن الشك راودني من زاوية أن الإنجليز يطلقون على اللعبة “فوت بول”، ولو أن الحكاية صحيحة لاحتفظوا باسمها القديم. إن الإنجليز، كما نعلم، مشهورون بالتمسك بالتقاليد والأعراف والأصول، إلى درجة أن النظام الديمقراطي العريق في المملكة المتحدة، ينظمه دستور عرفي غير مكتوب.
وحيث راودني الشك، فقد استعنت بـ”جوجل”، واستيقنت من أن لعبة كرة القدم ولدت بالفعل من رحم الحرب، وإن كانت قد حرمت وعادت، ثم حرمت بمراسيم ملكية، حتى ظهرت في المدارس الإنجليزية سنة 1710، قبل أن ينشأ أول نادٍ رياضي بعد ذلك بأكثر من قرن.
في حالة اليمن الآن، تبدت علاقة من نوع غريب بين الحرب وكرة القدم.
والمؤكد أن الحرب تعكس انقسامات وشقوقًا غائرة في المجتمع، غير أن لعبة الكرة أظهرت الوحدة الوطنية قوية وصلبة. ولا أظن أن الظاهرة تستوجب دراسة علماء النفس الاجتماعي، وتستدعي تفسيرهم. إن أحدًا لا يمانع في أن يخوض ويتكلم، لكن من السهولة القبض على الحقيقة دون غوص في البحث العلمي، وهي أن هذا التناقض الصارخ لا يعبر مطلقًا عن انفصام في الشخصية اليمنية، كما قد يتبادر إلى الأذهان. فحين يكون الحديث عن تناقض بين السياسة والرياضة، لا ينصرف المعنى إلى افتراض أن يتوحد اليمنيون في السياسة مثلما رأيناهم حيال الكرة. بل إن الاختلاف قائم في ميدان الرياضة بشتى أنواعها، إذ ها هنا يتنازع الناس التأييد للفرق والأندية المتنافسة.
الحق أنه أمام ملاعب كرة القدم تجلت اليمن صافية واضحة في مرأى عيون أغلبية الشعب العظيم. وهي وإن كانت مغلوبة في الوقت الراهن، فلسوف تكون غلابة غدًا وبعد غد.
وإنما ينصرف المعنى إلى أن الانقسامات السياسية تتطور إلى صراع، ثم في النهاية إلى صدام بالسلاح، وعلى الوجه الآخر يبرهن اليمنيون على أنهم كتلة واحدة متماسكة، وعلى أن قلوبهم ليست شتى.
البارز أن الذين يقتلون بعضهم في ساحات الحرب، كانوا مع الذين تابعوا رحلة منتخب الناشئين إلى الفوز بالدعاء والرجاء، وكانوا أيضًا جزءًا ممن رأينا خلجاتهم وانفعالاتهم أمام شاشات التلفزيون، ثم شاهدناهم يخرجون إلى الشوارع والميادين في عواصم المحافظات والبلدات، وفي المهاجر ومدن النزوح، يهتفون بصوت واحد: “بالروح بالدم نفديك يا يمن”.
ليس في هذا التناقض أبدًا انفصام في الشخصية، ولا يحمل أية دلالة على أن النصر الكروي أهم في وجدان الشعب من الانتصار للوطنية اليمنية.
الحق أنه أمام ملاعب كرة القدم تجلت اليمن صافية واضحة في مرأى عيون أغلبية الشعب العظيم. وهي وإن كانت مغلوبة في الوقت الراهن، فلسوف تكون غلابة غدًا وبعد غد.
لكن في ملعب السياسة يسود ضباب الرؤية، والسبب في ما أعتقد قدرة بعض الساسة على توجيه قطاعات واسعة من الناس إلى النضال ضد تطلعات شعوبها، دون أن تدرك أنها تخون مصالحها هي أولًا، وقبل أي شيء. وقد هيأ التطور المذهل في وسائل الإعلام والاتصالات فرصًا مضاعفة لأمثال هؤلاء في التضليل والإغواء.
إن الجمهورية وحدوية بالضرورة، وتقدمية بالطبيعة، ولا يكون التخلف والرجعية والانفصالية من السمات الأصيلة لأي نظام جمهوري، وإنما هي انحرافات قابلة للتعديل والتصحيح والتقويم
هذا الحال لا يقتصر على الشعوب الواقفة على درجة دنيا في سلم الحضارة الحديثة، بل ينطبق على جميع شعوب الأرض. ففي أوروبا المعاصرة عادت الأحزاب اليمينية المتعصبة بقوة، واستطاعت في النمسا أن تصعد إلى السلطة في لحظة حرجة مستشارًا يمينيًا، وكاد حزب الجمعية الوطنية اليميني في فرنسا أن يقتحم أبواب الإليزيه، لولا أن القوى المتنافسة من اليمين التقليدي حتى أقصى اليسار، تنبهت، وأعادت صياغة التحالفات للدفاع عن الديمقراطية في الظاهر، ولكن لحماية نفسها من بطش محتمل في حقيقة الأمر. وفي أوروبا ذاتها تمارس عنصرية طافحة ضد المواطنين من أصول أفريقية وآسيوية. وتشهد الولايات المتحدة أحداث عنف جماعية ضد مواطنين سود، كما تسجل حوادث اعتداء رهيبة لعناصر من الشرطة ضد مواطنين من أصول غير أوروبية. وفي هذه الدولة التي تدعي حراسة الديمقراطية، تمكن اليمين من إيصال رجل متعصب مثل ترامب إلى البيت الأبيض، فاتخذ قرارات ضد الهجرة، وغيرها من السياسات العنصرية.
هي المشكلة ذاتها بفارقين أساسين:
الأول: أن تأثير الإعلام المضلل أكثر طغيانًا على الشعوب التي ترتفع فيها مستويات الجهل.
الثاني: أن الصراع هناك حينما يعبر عن نفسه بالعنف، يبقى محصورًا في نطاق فردي، وعلى المستوى الجماعي، فإنهم يحتكمون إلى صناديق الاقتراع، وليس إلى السلاح.
أعود وأقول إن الصورة في اليمن لا تعبر عن انفصام، وما حدث هو أن الوطنية أعلنت عن حقيقتها الراسخة في الوجدان الشعبي في لحظة جيشان. كانت لحظة مفعمة بالفرح ارتفعت فيها الآمال باستعادة روح الوحدة والجمهورية المتألقة فوق سحب الانشطار والتردي الرجعي.
إن الجمهورية وحدوية بالضرورة، وتقدمية بالطبيعة، ولا يكون التخلف والرجعية والانفصالية من السمات الأصيلة لأي نظام جمهوري، وإنما هي انحرافات قابلة للتعديل والتصحيح والتقويم.
ولئن ثبت أن لعبة كرة القدم خرجت من رحم حرب وطنية، فإن الحقيقة الساطعة عندنا هي أن الوطنية أشعت من أرض الملاعب، ولوحت بالأمل في هزيمة شرور الحرب الأهلية وآثامها.
كان خروج ملايين اليمنيين على ذلك النحو المثير داخل البلاد وخارجها، مثار دهشة اليمنيين أنفسهم. ولقد رأى فيه البعض تعويضًا نفسيًا عن الأحزان والمواجع الكثيرة التي سببتها الحرب. ورأى بعض آخر أن المشاعر السلبية إزاء السعودية ولدت تلك البهجة.
وتعددت التفسيرات، وطرحت أسبابًا عديدة هي في الواقع ظلال للحقيقة. وأما الحقيقة في سطوعها فهي أن النصر الكروي استنفر المشاعر، واستحضر في الوجدان والضمير اليمن الكبير.
كذلك بدا الشعب موحدًا. ومع الوحدة استعاد رائحة الجمهورية وبريقها، ذلك أن اليمن لا يكون موحدًا إلا تحت علم الجمهورية.
المقال منقول من موقع المشاهد نت
للقرائة من المصدر هنأ
تعليقات
إرسال تعليق